لغز المقمعة
دراسة حالة هيروغليفية
د. أحمد العارف ود. ناصر سبلة
مخطط البحث:
1. مقدمة: إشكاليات الكتابة الهيروغليفية ودال فايغوس
2. تفنيد فرضة تحول دال فايغوس إلى جيم معطشة
3. حض في الهيروغليفية والقبطية والأوغاريتية
4. حص وحض في الهيروغليفية والجعيزية والعربية
5. حض وضح في العربية
6. حص وصح في العربية والسريانية
7. طرق قراءة النقوش الاستشراقية التقليدية
8. ضرورة قراءة النقوش بطريقة مباشرة
9. خاتمة
1. مقدمة:
استخدمت الهيروغليفية ألاف الرموز لتمثيل أصواتها، كان بعضها يمثل صوتاَ واحداً أو صوتين أو ثلاثة أو أكثر. نجد في الهيروغليفية القديمة الرمز T3 الذي كتبه مارك فايغوس صوتياً ḥḏ حيث يمثل الصوت الأول /ح/ بلا خلاف، والثاني شكلاً من أشكال الدال المفخمة حسب المشهور، ويقال شكلاً من أشكال الصاد (أو تس وتش)، بسبب تأثر القراء بالعبرية (كما في أريتس في العبرية الحديثة، وأصلها أرص وأرض)، كذلك فسر الصوت كثير من القراء بأنه يقابل الجيم العربية المعطشة /ج/ (وفي الحقيقة هذا الصوت بعيد جداً عن الجيم نطقاً ومخرجاً)، وتم الوصول إلى هذا الاستنتاج بناءً على مقارنة خاطئة مع اللغة الإنكليزية كما في كلمة dune التي تنطق جيون أو جون، بينما ليس هناك صوت /ي/ في الكلمة المصرية بالضرورة.
2. في الحقيقة يمكن لصوت /د/ أن ينطق هكذا فقط في حال وجود صوت /ي/ بعده مباشرة لتشابه مخرجي /ج/ و/ي/. كما في كلمة soldier التي أصبحت تنطق سولدجر بعد أن كانت تنطق سولدير، بينما كلمة done لا يمكن أن تنطق إلا د/َن/ لعدم وجود صوت /ي/ بعد الدال. ودليل ذلك أيضاً هو تحول الجيم إلى ياء كما في لهجات شرق الجزيرة العربية مثل دجاجة تصبح دياية، وتحول الياء إلى جيم كما في يوسف وجوزيف. أما تفسير الظاهرة العكسية التي تجري أمام أعيننا في مصر حالياً في اللهجة الصعيدية من تجول الجيم القوية المعطشة إلى دال كما في رجّال وَ ردّال، فسببها أيضاً هو أن الصعيدين ينطقون رجّال حقيقةً مع ياءٍ خفيفة مضمرة لمن انصت لها أي رجّيال وليس رجّال، مما سمح بتحولها إلى دال. كما تلعب الكسرة قبل الجيم أو بعدها دوراً شبيهاً بالياء لكن بدرجة أقل.
3. ترد هذه الكلمة مفردةً ومع عدة كلمات أخرى عشرات المرات وتعني مما تعنيه أبيض، ضوء الشمس والقمر، لامع، ساطع، صافٍ، فجر، صباح، فضة، عملة معدنية (فضية)، دفع المال، الجلد الأبيض، الإوزة، البصل، حيوان المارية (ضرب من البقر الوحشي الصافي اللون أو الأبيض)، بياض العين، التاج الأبيض، إلخ… كما وتستخدم كفعل بمعنى أضاء، أنار، لمع، إلخ… ولا زالت بقايا هذه الكلمة موجودة في اللغة القبطية الحديثة بصيغة مشابهة حات hat وتعني فضة، فضي، عملة أو نقود فضية، وتمثل دليلاً واضحاً على أنها ترقيق لصوت الدال أو أحد أشكاله. وتشاركها بذلك المسمارية الأوغاريتية في كلمة حتث :tA التي رققت فيها الدال أو الضاد إلى تاء لتحتفظ بأحد المعاني وهو الفضة.
4. هذا وإن أقرب الأصوات مخرجاً ونطقاً إلى /د/ هي /ذ/، /ض/ وَ /ص/ شقيقة الضاد. وقد أظهرت الدراسة الكمية المقارنة لهذا الرمز وتصويته في القاموس الهيروغليفي ذاته أنه فعلاً شكلٌ من أشكال الـ /د/ المذكورة، وأنه يمثل عدة أصوات في اللغات الأفروأسيوية والجعيزية والعربية خصوصاً وأهمها الصاد والضاد، إذ أن هذه الكلمة موجودة في الجعيزية بصيغتين حَوَصَ G‘a وَ حَوَضَ G‘ፀ ونفس المعنى العام: لمع، توهّج، سطع، نوّر، أضاء، أشعل.
5. حض وَ ضح:
في العربية الفصحى حَضِي وحَضِيء أي يَققُ، شديد البياض، ومقلوباتها مثل ضَحّ وضَحْضَحَ السراب ترقرق، والأمر تبيّن، والضِّيحُ والضِّحّ الضوء، ووَضَح بمعنى بانَ وصفى ومنه الوَضَحُ: بياضُ الصبح والقمرُ، والبَرَصُ، والوَضَحُ: اللبنُ (التي أوردتها الهيروغليفيات). والأَواضِح: البيض. حَضَأَتِ النارُ حَضْأً: التهبت. وحَضأَها يَحْضَؤُها حَضْأً: فتحها لتَلْتَهِب، وقيل: أَوقَدَها، كما هي في الهيروغليفية والجعزية.
6. حص وصح:
قال صاحب مقاييس اللغة: الحاء والصاد في المضاعف أصول ثلاثة: أحدها النَّصيب، والآخر وضوحُ الشيء وتمكنُّه، ويبدو أن الأصلان من الوضوح لأن الحِّصة هي القطعة البائنة، الواضحة، الخالصة، الصافية، ومن الوضوح والصفاء خرجت مشتقات عديدة تدل على ذلك كالصفاء والبياض. لأن منها ريح حَصّاءُ: صافيةٌ لا غُبار فيها. والحُصُّ اللُّؤْلُؤ. والأَحَصُّ: ماءٌ معروف، والمحصاة إناء من فضة، وأَحمرٌ حُضِّيٌّ: شديد الحمرة. وقوله عزّ وجلّ: الآن حَصْحَصَ [مضاعف حص] الحقُّ أي وَضَحَ وظَهَرَ وبَاْن في وضح النهار كما في قاموس تكملة المعاجم العربية. وتقول للحصحصة بهذا المعنى: صافَ الكذبُ وتبيَّن الحقُّ، وهذا من قول امرأَة العزيز. وأن صحّ تدل على وضوح البراءة من كل عيب وريب، والصحيح خلاف السقيم هو أَحمرٌ حُضِّيٌّ: أي شديد حمرة الوجنتين. وَ صحا صحواً تدل على الوضوح وذهاب مكدرات الرؤية. وتؤكد اللغة السريانية والآشورية هذه المعاني جميعاً إذ نجد كلمة صَح ܨܚ وَ صُوح ܨܘܚ التي تعني صفّى، روّق، نظف، غسل.
7. قراءة النقوش:
إذن كيف قرأ المستشرقون الرموز الهيروغليفية التي تدل على أصوات مركبة؟ عادة يكون ذلك غير ممكن إلا باستعمال إحدى وسيلتين أو كلاهما معاً في علم قراءة النقوش:
أ. وجود نص ثنائي اللغة يكون أحد لغاته مقروءة ومعروفة.
ب. استخدام سياق الكلام داخل اللغة ذاتها لتخمين الصوت من المعنى بحسب استمراره في نفس اللغة بشكل مكتوب آخر.
وفي الحالتين هناك احتمال وقوع أخطاء لأن اللغة الأجنبية المقابلة لا تحوي بالضرورة كل أصوات اللغة الأولى مثل اليونانية في حالة المصرية القديمة كما في حجر رشيد “روزيتا”. أما في مسألة السياق من نفس اللغة، وفي هذه الحالة نقصد القبطية كإستمرارية للمصرية القديمة، فهناك أيضاً احتمال وقوع أخطاء لأن بعض الأصوات المتشابهة داخل اللغة الواحدة قد تتغير مع الزمن. هذا بالإضافة إلى أنه قد يضيف قارئ النقوش أو يحذف عدة أصوات بحسب رؤيتة الذاتية وأسبقياته المعرفية والإيديولوجية، ناهيك عن أن يكون القائمون على هذه الدراسات غرباء عن لغات ولهجات المنطقة وتأثُر بعضهم الطفيف أو الطاغي بالنطق العبري والنظرية التوراتية وغيرها.
8. هكذا تطرق المقمعة المصرية العتيقة بيد الملك الأول “الصقر الأبيض” (حض حر) رؤوسنا مجدداً ومجدداً لمحاولة فهم الرموز مركبة الصوت وتقرع ناقوس الخطر لضرورة إنشاء مراكز أبحاث لغوية محلية تعيد قراءة النقوش الهيروغليفية مباشرة من رُقُمها بالاسنتاد إلى اللهجات المصرية الحية وقواميس اللغة العربية ولهجات المنطقة الأفروآسيوية مع الاستئناس بالجهود الجبارة التي قدمتها الأعمال والكتابات الاستشراقية، لكن ليس الاعتماد عليها بوصفها نقطة انطلاق ثابتة.
في سياق متصل فإن إعادة قراءة نقوش مختلفة، أظهرت في بعض السياقات أن القراءات السابقة خاطئة إلى حد بعيد ولا تستند إلى منهجية حقيقية، وأنه لا يمكن فهمها إلا من خلال قراءتها على أنها نصوص شعرية أقرب ما تكون إلى اللهجة العامية لمنطقة النقوش ذاتها.
9. وفي الختام فلا يجب أن تكون نتائج هذا البحث مُفاجئة أو صادمة إذ أن الصاد والضاد صوتان مصريان حيان، ولو أن صوت الضاد في اللهجة المصرية أخف من الضاد المعيارية الفصحى والضاد الشامية وأقرب إلى الدال، كما في كلمة “النهارده” / “النهارضة” حيث الدال فيها أفخم من الدال وأرق من الضاد، وبهذا فإن الأرجح هو أن الضاد المصرية الحالية هي ذاتها الضاد المصرية القديمة، وربما ليس من المستغرب أيضاً أن تختفي الضاد نطقاً من كامل الجزيرة العربية والعراق ودول المغرب العربي لتتحول إلى ظاء لأنها أصلاً كانت أقرب إلى الظاء، وتبقى في مصر والشام لأنها كانت وما زالت كذلك.
مقال جميل جداً … لا بد من إعادة دراسة اللغة من أهلها!